فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ}.
وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1] ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة، وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير هل كان واجبًا على النبي عليه السلام أم لا؟ فنقول التخيير قولًا كان واجبًا من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة، لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا؟ والظاهر أنه للوجوب، ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقًا والظاهر أنه لا يصير فراقًا وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا} ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظرًا إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب، لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا، فإنه لا يلزمه شرعًا الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، والظاهر أنها لا تحرم، وإلا لا يكون التخيير ممكنًا لها من التمتع بزينة الدنيا، ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظرًا إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلًا، بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب، وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا، إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه، ومنها قوله عليه السلام: {وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا} إشارة إلى ما ذكرنا، فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة، فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه، ومنها قوله: {وَإن كُنتُنَّ تُردْنَ الله} إعلامًا لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله: {أَعَدَّ للمحسنات منكُنَّ} أي لمن عمل صالحًا منكن، وقوله: {تُردْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الأخرة} فيه معنى الإيمان، وقوله: {للمحسنات} لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى، كقوله تعالى: {وَمَن يُسْلمْ وَجْهَهُ إلَى الله وَهُوَ مُحْسنٌ} [لقمان: 22] وقوله تعالى: {مَنْ ءامَنَ وَعَملَ صالحا} [الكهف: 88] وقوله: {الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات} [البقرة: 82] والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات، وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق، حتى لو كان زائدًا في الطول يقال له طويل، ولو كان زائدًا في العرض يقال له عريض، وكذلك العميق، فإذا وجدت الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال جبل عظيم إذا كان عاليًا ممتدًا في الجهات، وإن كان مرتفعًا فحسب يقال جبل عال، إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح، لما في مأكوله من الضرر والثقل، وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم، وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
{يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (30)}.
لما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان إحداهما: أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه، وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام، ويكون ذلك الغير خيرًا عندها من النبي وأولى، والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير، فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين ثانيتهما: أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهارًا لشرفها، ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم، فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة، وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته، فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله: {لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر، ولا يقع في بعض الصور جزمًا وفي بعض يقع جزمًا من مات فقد استراح، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى: {مَن يَأْت منكُنَّ بفاحشة} عندنا من القبيل الأول، فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة، وقوله تعالى: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسيرًا} أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجك إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا} الْآيَةَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزيّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْريّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَبَدَأَ بي فَقَالَ: يَا عَائشَةُ إنّي ذَاكرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجّلي فيه حَتَّى تَسْتَأْمري أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانني بفرَاقه، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجك} الْآيَةَ، فَقُلْت: أَفي هَذَا أَسْتَأْمرُ أَبَوَيَّ؟ فَإنّي أُريدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ.
وَرَوَى غَيْرُ الجرجاني عَنْ عَبْد الرَّزَّاق، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَني أَيُّوبُ أَنَّ عَائشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه لَا تُخْبرْ أَزْوَاجَك أَنّي أَخْتَارُك قَالَ: «إنَّمَا بُعثْت مُعَلّمًا وَلَمْ أُبْعَثْ مُتَعَنّتًا».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ في مَعْنَى تَخْيير الْآيَة، فَقَالَ قَائلُونَ وَهُمْ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخرَة؛ لأَنَّهُ قَالَ: {إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا} إلَى قَوْله: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ}.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ تَخْييرًا للطَّلَاق عَلَى شَريطَة أَنَّهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا كُنَّ مُخْتَارَاتٍ للطَّلَاق؛ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا} فَجَعَلَ اخْتيَارَهُنَّ للدُّنْيَا اخْتيَارًا للطَّلَاق.
وَيَسْتَدلُّونَ عَلَيْه أَيْضًا بمَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائشَةَ أَنَّهَا سُئلَتْ عَنْ الرَّجُل يُخَيّرُ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ وَفي بَعْض الْأَخْبَار: فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا.
قَالُوا: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ خَيَّرَهُنَّ إلَّا الْخيَارَ الْمَأْمُورَ به في الْآيَة، وَيَدُلُّ عَلَيْه مَا قَدَّمْنَاهُ منْ حَديث عُرْوَةَ عَنْ عَائشَةَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: إنّي ذَاكرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجّلي فيه حَتَّى تَسْتَأْمري أَبَوَيْك قَالَتْ: قَدْ عَلمَ اللَّهُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانني بفرَاقه ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَالَتْ: إنّي أُريدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ.
فَقَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا قَدْ حَوَى الدَّلَالَةَ منْ وُجُوهٍ عَلَى أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخرَة وَبَيْنَ اخْتيَارهنَّ الطَّلَاقَ أَوْ الْبَقَاءَ عَلَى النّكَاح؛ لأَنَّهُ قَالَ لَهَا: «لَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجّلي حَتَّى تَسْتَأْمري أَبَوَيْك» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الاسْتئْمَارَ لَا يَقَعُ في اخْتيَار الدُّنْيَا عَلَى الْآخرَة، فَثَبَتَ أَنَّ الاسْتئْمَارَ إنَّمَا أُريدَ به في الْفُرْقَة أَوْ الطَّلَاق أَوْ النّكَاح.
وَقَوْلُهَا: إنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانني بفرَاقه وَقَوْلُهَا: إنّي أُريدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهَذه الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ التَّخْييرَ بَيْنَ الطَّلَاق وَالنّكَاح.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ تَخْييرَ طَلَاقٍ بقَوْله تَعَالَى: {إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا} فَإنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلّقَهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُوجبْ ذَلكَ وُقُوعَ طَلَاقٍ باخْتيَارهنَّ، كَمَا يَقُول الْقَائلُ لامْرَأَته: إنْ اخْتَرْت كَذَا طَلَّقْتُك يُريدُ به اسْتئْنَافَ إيقَاعٍ بَعْدَ اخْتيَارهَا لمَا ذَكَرَهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ تَخْييرَهُنَّ بَيْنَ الْفرَاق وَبَيْنَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ} قَدْ دَلَّ عَلَى إضْمَار اخْتيَارهنَّ فرَاقَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ في قَوْله: {إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا} إذْ كَانَ النَّسَقُ الْآخَرُ منْ الاخْتيَار هُوَ اخْتيَارُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَالدَّار الْآخرَة؛ فَثَبَتَ أَنَّ الاخْتيَارَ الْآخَرَ إنَّمَا هُوَ اخْتيَارُ فرَاقه، وَيَدُلُّ عَلَيْه قَوْلُهُ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ} وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا هيَ بَعْدَ اخْتيَارهنَّ للطَّلَاق.
وَقَوْلُهُ: {وَأُسَرّحْكُنَّ} إنَّمَا الْمُرَادُ إخْرَاجُهُنَّ منْ بُيُوتهنَّ بَعْدَ الطَّلَاق، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمنَات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلَى قَوْله: {سَرَاحًا جَميلًا} فَذَكَرَ الْمُتْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاق، وَأَرَادَ بالتَّسْريح إخْرَاجَهَا منْ بَيْته.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ عَليٌّ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحدَةٌ رَجْعيَّةٌ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ بَائنَةٌ وَذَلكَ في روَايَة زَاذَانَ عَنْهُ، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عَليٍّ: أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ بَائنَةٌ.
وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّه رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في الْخيَار وَأَمْرُك بيَدك: إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ رَجْعيَّةٌ وَإنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابتٍ في الْخيَار: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ، وَقَالَ في أَمْرُك بيَدك: إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ رَجْعيَّةٌ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَار في ذَلكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ:
إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ بَائنَةٌ إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ، وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإنْ نَوَى وَقَالُوا في أَمْرُك بيَدك مثْلُ ذَلكَ إلَّا أَنْ يَنْويَ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثَلَاثًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبي لَيْلَى وَالثَّوْريُّ وَالْأَوْزَاعيُّ في الْخيَار: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحدَةٌ يَمْلكُ بهَا الرَّجْعَةَ.
وَقَالَ مَالكٌ في الْخيَار: إنَّهُ ثَلَاثٌ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَإنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَقَالَ في أَمْرُك بيَدك: إذَا قَالَتْ: أَرَدْت وَاحدَةً فَهيَ وَاحدَةٌ يَمْلكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُصَدَّقُ في الْخيَار أَنَّهُ أَرَادَ وَاحدَةً، وَلَوْ قَالَ اخْتَاري تَطْليقَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَهيَ وَاحدَةٌ رَجْعيَّةٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ في الْخيَار: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهيَ بَائنَةٌ.
وَقَالَ الشَّافعيُّ في اخْتَاري وَأَمْرُك بيَدك: لَيْسَ بطَلَاقٍ إلَّا أَنْ يُريدَ الزَّوْجُ، وَلَوْ أَرَادَ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسي فَإنْ أَرَادَتْ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإنْ لَمْ تُردْهُ فَلَيْسَ بطَلَاقٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: التَّخْييرُ في نَفْسه لَيْسَ بطَلَاقٍ لَا صَريحٍ وَلَا كنَايَةٍ؛ وَلذَلكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإنْ أَرَادَهُنَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْه أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ خَيَّرَ نسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلكَ طَلَاقًا وَلأَنَّ الْخيَارَ لَا يَخْتَصُّ بالطَّلَاق دُونَ غَيْره، فَلَا دَلَالَةَ فيه عَلَيْه، وَلَيْسَ هُوَ عنْدَكُمْ كَقَوْله: اعْتَدّي أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا إذَا نَوَى؛ لأَنَّ الْعدَّةَ منْ مُوجب الطَّلَاق، فَالطَّلَاقُ مَدْلُولٌ عَلَيْه باللَّفْظ؛ وَإنَّمَا جَعَلُوا الْخيَارَ طَلَاقًا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بالاتّفَاق وَبأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ تَخْييرَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ نسَاءَهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ الْفرَاق وَالْبَقَاء عَلَى النّكَاح أَنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَوْلَا ذَلكَ لَمْ يَكُنْ للتَّخَيُّر مَعْنًى، وَتَشْبيهًا لَهُ أَيْضًا بسَائر الْخيَارَات الَّتي تَحْدُثُ في النّكَاح كَخيَار امْرَأَةٍ الْعنّينَ وَالْمَجْبُوبَ فَيَقَعُ به الطَّلَاقُ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَمنْ أَجْل ذَلكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثًا؛ لأَنَّ الْخيَارَات الْحَادثَةَ في الْأُصُول لَا تَقَعُ بهَا ثَلَاثٌ.
فصل:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمنْ النَّاس مَنْ يَحْتَجُّ بهَذه الْآيَة في إيجَاب الْخيَار وَفي التَّفْريق لامْرَأَة الْعَاجز عَنْ النَّفَقَة؛ لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لَمَّا خُيّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخرَة فَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْآخرَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بتَخْيير نسَائه، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجك إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا}.
الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوا وَذَلكَ؛ لأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ اخْتيَارَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لفرَاقهنَّ بإرَادَتهنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ منْ نسَائنَا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا لَمْ يُوجبْ ذَلكَ تَفْريقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجهَا، فَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الَّذي منْ أَجْله أَوْجَبَ اللَّهُ التَّخْييرَ الْمَذْكُورَ في الْآيَة غَيْرَ مُوجبٍ للتَّخْيير في نسَاء غَيْره فَلَا دَلَالَةَ فيه عَلَى التَّفْريق بَيْنَ امْرَأَة الْعَاجز عَنْ النَّفَقَة وَبَيْنَهُ.
وَأَيْضًا فَإنَّ اخْتيَارَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ للْآخرَة دُونَ الدُّنْيَا وَإيثَارَهُ للْفَقْر دُونَ الْغنَى لَمْ يُوجبْ أَنْ يَكُونَ عَاجزًا عَنْ نَفَقَة نسَائه؛ لأَنَّ الْفَقيرَ قَدْ يَقْدرُ عَلَى نَفَقَة نسَائه مَعَ كَوْنه فَقيرًا، وَلَمْ يَدَّع أَحَدٌ منْ النَّاس وَلَا رُويَ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ كَانَ عَاجزًا عَنْ نَفَقَة نسَائه بَلْ كَانَ يَدَّخرُ لنسَائه قُوتَ سَنَةٍ، فَالْمُسْتَدلُّ بهَذه الْآيَة عَلَى مَا ذَكَرَ مُغْفلٌ لحُكْمهَا.
قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن}.
قيلَ في تَضْعيف عَذَابهنَّ وَجْهَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نعَمُ اللَّه عَلَيْهنَّ أَكْثَرَ منْهَا عَلَى غَيْرهنَّ بكَوْنهنَّ أَزْوَاجًا للنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَنُزُول الْوَحْي في بُيُوتهنَّ وَتَشْريفهنَّ بذَلكَ، كَانَ كُفْرَانُهَا منْهُنَّ أَعْظَمَ وَأَجْدَرَ بعظَم الْعقَاب؛ لأَنَّ النّعْمَةَ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ فيمَا يُسْتَحَقُّ به منْ الْعقَاب؛ إذْ كَانَ اسْتحْقَاقُ الْعقَاب عَلَى حَسَب كُفْرَان النّعْمَة، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَطَمَ أَبَاهُ اسْتَحَقَّ منْ الْعُقُوبَة أَكْثَرَ ممَّا يَسْتَحقُّهُ مَنْ لَطَمَ أَجْنَبيًّا لعظَم نعْمَة أَبيه عَلَيْه وَكُفْرَانه لَهَا بلَطْمَته؟ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْويل قَوْله تَعَالَى في نَسَق التّلَاوَة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوتكُنَّ منْ آيَات اللَّه وَالْحكْمَة} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَضْعيفَ الْعَذَاب عَلَيْهنَّ بالْمَعْصيَة لأَجْل عظَم النّعْمَة عَلَيْهنَّ بتلَاوَة آيَات اللَّه في بُيُوتهنَّ، وَمنْ أَجْل ذَلكَ عَظُمَتْ طَاعَاتُهُنَّ أَيْضًا بقَوْله: {وَمَنْ يَقْنُتْ منْكُنَّ للَّه وَرَسُوله وَتَعْمَلْ صَالحًا نُؤْتهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن} لأَنَّ الطَّاعَةَ في اسْتحْقَاق الثَّوَاب بهَا بإزَاء الْمَعْصيَة في اسْتحْقَاق الْعقَاب بهَا.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ في إتْيَانهنَّ الْمَعَاصيَ أَذًى للنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لمَا يَلْحَقُ منْ الْعَار وَالْغَمّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا ممَّنْ آذَى غَيْرَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالْآخرَة} ثُمَّ قَالَ: {وَاَلَّذينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمنينَ وَالْمُؤْمنَات بغَيْر مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُبينًا}.
وَلَمَّا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَات أَزْوَاج النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ بهَا الْأَجْرَ مَرَّتَيْن دَلَّ بذَلكَ عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْعَامل الْعَالم أَفْضَلُ وَثَوَابُهُ أَعْظَمُ منْ الْعَامل غَيْر الْعَالم، وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوتكُنَّ منْ آيَات اللَّه وَالْحكْمَة} قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلكَ. اهـ.